هو العلامة الفقيه المجتهد الرباني الحنفي، أبو الهذيل زفر بن الهذيل بن قيس بن سلم ولد سنة 110 في العراق.

وكانت أسرة زفر على جانب من سعة الرزق وبحبوحة العيش، وهو ما ساعده على الانصراف إلى طلب العلم دون أن يشغل نفسه بأعباء الحياة، فحفظ القرآن صغيرا واستقام به لسانه، وتفتحت مواهبه واستعدت لطلب العلم، ومالت نفسه ورغبت في تلقي الحديث النبوي، فتردد على حلقاته واتصل بشيوخه الأبرار، وفي مقدمتهم محدث الكوفة سليمان بن مهران المعروف بالأعمش، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن أبي عروبة، وإسماعيل بن أبي خالد، ومحمد بن إسحاق، وأيوب السختياني في أصبهان.

ثم ذهب إلى أصبهان مع والده، في خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان أبوه قد تولى أمر أصبهان، وفي الفترة التي أقامها زفر في أصبهان أخذ عن علمائها ومحدثيها المشهورين، حتى أصبح حافظا متقنا، وثقة مأمونا.

ولما رسخت قدمه في السنة أقبل عليه طلاب العلم يتعلمون على يديه، ويروون عنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر هؤلاء: أبو نعيم الأصبهاني، وحسان بن إبراهيم، وأكثم بن محمد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وخالد بن الحارث.

وكان زفر محدثا بصيرا وخبيرا بفنون الحديث، وناقدا دقيقا، ويصف أبو نعيم ذلك بقوله: "كنت أعرض الحديث على زفر، فيقول هذا ناسخ وهذا منسوخ، وهذا يؤخذ به وهذا يرفض".

وبلغ من سعة علمه وتمكنه من فنون الحديث وقدرته على التمييز بين درجات الحديث من حيث الصحة والضعف أنه كان يقول للحافظ أبي نعيم: "هات أحاديثك، أغربلها لك غربلة"، ولما عاد إلى الكوفة وكانت تموج بحلقات العلماء، استأنف اتصاله بكبار الأئمة، وانتظم في حلقاتهم، ونهل من علمهم، حتى اتصل بأبي حنيفة النعمان، وكان قد انتهت إليه رئاسة الفقه في العراق، واتسعت شهرته، فلازمه ملازمة لصيقة، حتى غلب عليه الفقه وعرف به، فقيل: "كان صاحب حديث، ثم غلب عليه الفقه".

ويذكر أبو جعفر الطحاوي أن سبب انتقال زفر إلى حلقة أبي حنيفة مسألة فقهية أعيته وأعيت أصحابه من المحدثين، وعجزوا عن حلها، فلما أتى بها إلى أبي حنيفة أجابه إجابة شافية، فكان ذلك أحد الأسباب التي دفعت بزفر إلى الاشتغال بالفقه والإقبال عليه، فالتزم أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة، ووجد فيه الفهم العميق والفكر السديد، ومالت نفسه إليه.

ولما توفي أبو حنيفة النعمان خلفه في حلقته زفر بن الهذيل بإجماع تلامذة الإمام دون معارضة، وقد رفض منصب القضاء حين عرض عليه، وظل منقطعا إلى العلم، وقد توفي وهو في الثامنة والأربعين.

قال الذهبي: ذكره يحيى بن معين، فقال: ثقة مأمون


هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي, وأمه: سلامة البربرية.

ولد سنة 95, وكان أسمر, طويلا, نحيفا, مهيبا, خفيف العارضين, معرق الوجه, رحب الجبهة, كأن عينيه لسانان ناطقان, تخالطه أبهة الملك بزي النساك, تقبله القلوب، وتتبعه العيون, وكان فحل بني العباس؛ هيبة وشجاعة، ورأيا وحزما، ودهاء وجبروتا، وكان جماعا للمال, حريصا تاركا للهو واللعب, كامل العقل بعيد الغور، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم.

أباد جماعة كبارا حتى توطد له الملك، ودانت له الأمم على ظلم فيه، وقوة نفس، ولكنه يرجع إلى صحة إسلام وتدين في الجملة، وتصون وصلاة وخير، مع فصاحة وبلاغة وجلالة، وعظ المنصور عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة فأبكاه، وكان المنصور يهاب عمرا ويكرمه، وقد كان المنصور يصغي إلى أقوال المنجمين، وهذا من هناته مع فضيلته.

كان حاكما على ممالك الإسلام بأسرها, سوى جزيرة الأندلس، وكان ينظر في حقير المال، ويثمره، ويجتهد بحيث إنه خلف في بيوت الأموال من النقدين أربعة عشر ألف ألف دينار، وستمئة ألف ألف درهم، وكان كثيرا ما يتشبه بالثلاثة في سياسته وحزمه، وهم: معاوية، وعبد الملك، وهشام.

لما رأى المنصور ما يدل على قرب موته سار للحج، فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر قبل أن يصل مكة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمه، والربيع مولاه، فكتم الربيع موته، واشتغلوا بتجهيز المنصور، ففرغوا منه العصر، وكفن، وغطي وجهه وبدنه، وجعل رأسه مكشوفا لأجل إحرامه، وصلى عليه عيسى بن موسى، وقيل: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفن في مقبرة المعلاة، وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس، ودفن في غيرها، عاش أربعا وستين سنة، وكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوما.


كان المنصور عهد بالخلافة لولده المهدي محمد بن عبد الله من بعده بعد أن اضطر عيسى بن موسى إلى خلع نفسه من ولاية العهد، فلما توفي المنصور في الحج كتم أمر وفاته، حتى أخذت البيعة لابنه المهدي، وبويع له بين الركن والمقام، عرف المهدي بسماحته وكرمه ورده للمظالم.